احداث الاندلس التي انهت الوجود العربي والاسلامي تتكرر الان ولكن بوتيرة اسرع.
بين بداية غزو الاندلس ويوم تسليم مفاتيح قصر الحمراء في غرناطة فترة 781 عام، ومن يوم اعلان ابو الحزم بن جهور سقوط الخلافة الاموية في قرطبة عام 1031 ونهاية عهد الاسلام ورحيل أخر سلاطين غرناطة 461 عام. هذه الحسبة حتى نعرف متى بدأ الانهيار ومن أي سنة نباشر الحساب التراجعي، وذلك بهدف عمل تقدير تقريبي متى ينقرض العرب والاسلام من جنوب وشرق البحر المتوسط كما انقرضوا من الاندلس. بالطبع هناك فوارق بين التصدي الاسباني الصليبي الضعيف انذاك لمسلمين أقوياء، بينما هم الان في موقع المتقدم المتطور والمسلمين في موقع التراجع المتواصل منذ ما قبل سقوط الاندلس. لكن من أين ومتى نبدأ في حساب التراجع العربي الاسلامي؟ ربما من نهاية مرحلة الفتوحات؟
“الفارق الحضاري والاقتصادي والعسكري يؤهل الغرب لتدمير العرب والمسلمين الان في غضون أسابيع، لكنهم يسيرون في مخطط استعادة حوض البحر واعادة العرب والمسلمين الى منابعهم، او تذويبهم بهدؤ في اغلب الاحيان، وبالقهر كعامل مساعد كلما تطلب الامر، وزرع وتسليط إسرائيل كنعصر استنزاف والهاء متواصل”. لكن هل العرب والمسلمين الان في وضع شبيه بحال الاندلس عندما بدأ انهيارها؟ الجواب الفوري، نعم. بل ويمكن القول ان وضعهم الان أسوأ مما كان انذاك لانهم العوبة في يد الغرب وتحت حمايته ويرعون في مزارعه ويأكلون من سهوله ويستعملون ادواته، ويفعل الغرب بالعرب ما أراد ومتى أراد.
الحظيرة العربية الاسلامية تتعلم العلوم الغربية سواء بلغات الام او لغات دول الغرب، وفي دول المغرب العربي وبعد عقود من التعريب الشكلي فالاغلبية تتقن الفرنسية أفضل من اتقانها للعربية. في دول المشرق العربي تدرس الانجليزية من الصف الرابع الابتدائي في المدارس الحكومية ومن الحضانة في القطاع الخاص واسع الانتشار خصوصاً لمن يريدون ان يصبحوا النخبة .. ليس هذا بيت القصيد، وأنما الرغبة الجامحة لدى أغلبية الشبان والشابات بالرحيل عن بلادهم الى الغرب .. انها اعز امانيهم ان يذوبوا في العالم الغربي، بعضهم يظن انه يحتفظ بدينه، لكن الحقيقة ان الغرب يلغي مفهوم الدين العربي السائد. في الغرب لك حرية التعبد طالما انك تعمل وتنتج وتلتزم بالقانون وتحترم حريات الغير، أي انها العلمانية. ولذلك نجد المهاجرين الذين ما كانوا لينجزوا شيئاً يذكر في بلادهم، نجدهم يبدعون في بلاد الغرب العلمانية، بالرغم من كونهم مسلمين. هكذا يستورد الغرب أفضل الاصناف من المزارع لسد الحاجة ولتذويب فرص المجتمعات المُصدرة، التي تعلم وتربي وتنتج الاجيال لخدمة الغرب باقل الاكلاف، لكن هذه المجتمعات الاسلامية ترفض العلمانية لان مجموعة علماء دين جهلة صوغوا لهم العلمانية كشئ من الكفر، وهذا في حد ذاته اتهام لكل المغتربين وكل المتمنين للهجرة والساعين لها بأنهم كفار، لانهم في الغرب يعيشون كعلمانيين سواء أقروا بذلك او أغمضوا أعينهم.
“الاستفادة الغربية من مزارع انتاج المهاجرين هي احد الاسباب التي تمهل عملية دحر العرب والاسلام بسرعة جغرافياً، رغم ان الدحر حاصل عملياً“. الهجرة بانتقاء الافضل والاكثر استعداداً للخدمة تعني زيادة نسب الجهل بين المتبقين وهذا أنجاز غير ملموس للعين المجرده ولكنه قطعاً ظاهر للعيان في حالات الاحتكاك مع غالبية المتبقين. يقول بعض الجهلاء ان العرب والديانة الاسلامية تنتج أفضل العلماء والادباء في الغرب، هذه حقيقة وكذبه في آن، فهؤلاء ولدوا مسلمين وربما تربوا ضمن التراث الاسلامي وقد يصلوا في مساجد الغرب متى ارادوا، لكن الذي جعلهم وصورهم على ما اصبحوا عليه هو البلد الذي انتقلوا اليه .. قوانينه ومناخة الاجتماعي ومناهج تعليمه، أي علمانيته وابعاد الدين عن سنن الحياة اليومية من دون منع التعبد لمن يريد. هكذا ولذلك أصبحوا متفوقون، وليس لانتمائهم للعروبة او الاسلام، ولو بقوا في بلدانهم لما أفلحوا.
يوجد تقريباً 70 مليون عربي يعيشون خارج الوطن العربي، وهناك اعداد أضافية من ابناء الجيل الثاني والثالث ولدوا في المهاجر. لهؤلاء أدوار ظاهرة حيث يقيمون، في التجارة والاقتصاد والسياسة، ويشكلون نسب سكانية عالية في بعض بلدان المهجر، كما انهم يحولون لاقاربهم في الدول العربية أكثر من خمسين مليار دولار سنوياً. لن نخوض في التفاصيل لاثبات هذه الحقائق، ولكن النظر للمتبقين من مئات الملايين في الدول العربية تظهر الكوارث المحيقة بأوطانهم .. كوارث كلها من صنعهم، او من قلة صنعهم وصنيعهم وحيلتهم. فلا توجد مشكلة واحدة من التي تكسر ظهر الدول العربية الا وتكون من صنع الابناء المتبقون على ارضهم، بينما المهاجرين ينجحون ديمقراطياً في برلمانات الدول المضيفة ورئاستها واقتصادها وأمنها. ولنا ان نتصور حجم نجاحهم الاقتصادي الانتاجي من مقدار ما يحولوه كمنح لاقاربهم في الدول العربية، والذي يعادل 700 دولار من كل مغترب سنوياً، ولو أفترضنا ان كل واحد من السبعين مليون مغترب يتبرع لاقاربة في الوطن العربي بعشرة بالمائة من دخله فهذا يعني ان واحد منهم كبير او صغير او متقاعد لديه متوسط دخل سبعين الف دولار سنوياً. واذا كان السبعون مليون يتبرعون بخمسين مليار، فما هو رأسمالهم؟؟ انها قصة نجاح لمن يهاجر ويهرب بجلده من واقع يحكمه المتخلفون المتزمتون والاستغلاليون والعسكريون الديكتاتوريون، ولهذا يهرب كل من يستطيع الهرب. هؤلاء الهاربين هم بالطبع الخريجون واهل الاختصاص والمفكرون ومن لديهم روح المغامرة وقدرة على التعايش مع الغير واستيعاب المجتمعات والقوانين المختلفة عن ما ركن اليه وأعتبره المتبقون اساس الدين والدنيا.
حين ننظر الى حاكم او جهاز اداري او جيش متخلف عن أداء مهامه بالشكل السليم، او مواطن مكسور الانف ومسلوب الارادة، اتكالي يقبل الواسطة ويتقبل الفساد، فعلينا ان تنذكر ان هؤلاء هم قاع الصحارة وليسوا التوجيهة .. وهكذا نعرف سر ما يدور في المنطقة. حين يكون الوضع السياسي متردي في اي بلد عربي فهذا معناه تردي بقية الاوضاع .. والوضع العربي الحالي أسوأ من الأندلس في عصر الطوائف: الإمبراطوريات الفارسية والتركية والروسية تتقاسم دول المنطقة بينما العرب قطع شطرنج في اللعبة وليسوا من ضمن اللاعبين سواء في ليبيا واليمن وسوريا والعراق وفلسطين .. إسرائيل تفاوض ذاتها حول حجم الضم وشروطه وتتجاهل وجود سلطة خارج إطار الخدمة الأمنية .. مصر لا تتدخل فيما يجري في فلسطين ولا تحذر إسرائيل من جراء الضم ولو بتجميد اتفاقيات السلام، بل ان الرئيس المصري يهدد بالتدخل في ليبيا عسكرياً بينما أثيوبيا تحجز مياه نهر النيل عن مصر والسودان اللذين لا يتفقان على سياسة موحدة تجاه اثيوبيا. دول المغرب العربي تقف متفرجة عما يجري في ليبيا من تدخلات خارجية عسكرية سوف تؤثر على بلدانها ان أجلاً او عاجلاً وكل منها في خصام مع جاراتها.
دول الخليج العربي متخاصمة وتحاصر بعضها، وتقاتل في اليمن المسكين وتجوع أهله المنقسمون على أنفسهم، كما انها تشجع على توريط مصر في ليبيا كي تتصدى لمخططات تركيا بأقامة امبراطورية عثمانية جديدة .. هذا بينما أهل ليبيا يشاركون في التدمير الذاتي ويتحالفون مع الغرباء ضد بعضهم، تماما كما يفعل أهل فلسطين منذ عقود في صراع سياسي ومالي وسلطوي بين حماس حليفة أيران والاخوان المسلمين وفتح والسلطة حليفة اسرائيل بعد ان تخلى عنها بقية العرب. ويدعي الفلسطينيون انهم أهل الفهم والعلم والسياسة والنضال بينما هم في الحقيقة لا يمارسون أبجديات المنطق ولا يتعلمون من كل تجربتهم مع الاحتلال، ولولا نشاطات الفلسطينيين في المهجر لما تذكر احد ما يجري ولما وجدت مقاطعة للاحتلال وتأييد للقضية التي قتلها الابناء الباقون المتقاتلون على كرسي مهزوز القوائم، وعلى فتات الفتات.
عندما احتل الاسبان أشبيلية ابقوا على سكانها المسلمين لفترة انتقالية .. شغلوهم في بناء القصور بالزخارف الجميلة، وخدمة الارض والزرع لتأمين الغذاء للسادة، وعندما استكملوا استرجاع كل الاندلس طردوا السكان المسلمين ورفضوا من تنصر منهم وسلبوا كل أملاكهم. في المراحل النهائية صار الجنود عند الموانئ يطلبون من المسلمات ان يتنططن ليسمعوا خرخشة النقود المخبأة في الملابس، لينهبوها .. وكان هؤلاء عندما يصلون الى البر المقابل من حيث جاء أجدادهم، يجدون عصابات رسمية وغيرها تقشطهم ما تبقى معهم .. هكذا وبعد أكثر من خمسة قرون من هجرة الاندلسيين لم تتحول بلاد المغرب العربي الى ما يشبه الاندلس، فقد كان ابداع الاندلسيين في أجواء وظروف غير متوفرة في مكان أخر. ولمجرد المقارنة فقط، يمكننا الان الانتباه الى حقيقة ان الفلسطينيين يخدمون بموافقة سلطتهم الاحتلال الاسرائيلي أمنيا واقتصادياً، بل هم من يبني المستوطنات ومن يستهلك الانتاج الاسرائيلي ويدفع الضرائب لدولة الاحتلال .. وربما يتم تنطيطهم في مرحلة قادمة، وربما أيضاً أذا هاجروا لكندا او أي بلد بنظام محترم ستجدهم يبدعون، واذا استقروا في مخيمات الدول المجاورة ستمر الف سنة وهم ينتظرون.
“المخطط الغربي متطور مع الزمن منذ بدايته ايام الحروب الصليبية .. الهدف استرجاع حوض البحر المتوسط الذي كان تحت الاشراف الروماني قبل الاسلام، وبالطبع من أجل انجاز الهدف يجب هزيمة الاسلام وأعادته الى شبه الجزيرة العربية بعد تفريغه من محتواه ونزع مخالبه“. كل ما حدث منذ الغزوات الصليبية يشير الى ذلك. زرع قوة مدعومة وسط العالم العربي ورعايتها لخلق التهديد من القلب .. وخلق طوق حول الوطن العربي اشرك تركيا وايران مع حلف الناتو أيام اتاتورك والشاه، ولا زالت الدولتان رغم تغير الحكام تمارس دور الخانق على العرب والناهب لمواردهم. دول جنوب المغرب العربي التي دعمت سراً من اسرائيل، ثم ظهر دور اثيوبيا التي وردت الفلاشا لاسرائيل ثم تشارك في تهديد مصر عبر سد النهضة.
مصر مستهدفة دوما كونها قلب الامة العربية وقوته البشرية وأمله المستقبلي. ورغم وجود سلام مع إسرائيل والغرب الا ان الامر بالنسبة لهم قابل للانقلاب في لحظات، لذلك خلقوا فكرة سد النهضة الاثيوبي القادر على ازالة مصر والسودان عن وجه الارض .. حتى لو قبلت اثيوبيا كل الاحتياطات والشروط المصرية والعالمية فلن يتغير بالنسبة لاسرائيل والغرب شئ، فغارة جوية واحدة او بضع صواريخ كروز تدمر السد ستزيل مصر والسودان. سعة السد 73 مليار متر مكعب مخزنة على ارتفاع 4000 متر عن سطح البحر وبالتالي اذا انهار السد سيغرق السودان ويدمر السد العالي وتغرق المياه مدن وقرى مصر حتى الدلتا والاسكندرية. هذا السد اقيم عمداً على مسافة 40 كيلو متر من الحدود مع السودان، اي لا فائدة منه عمليا لري اراضي اثيوبيا التي تملك اربع انهار اخرى تصب في المحيط وكان الافضل لو اقيم السد على أحداها قرب العاصمة والمدن والقرى ومركز البلاد. المشكلة ليست كما يظن الناس ان اثيوبيا قد تحجب الماء عن مصر والسودان، ولكن ان تطلق عليهم الماء بعد ملئ السد، او ينهار لسبب او لاخر خصوصاً مع وجود تشكيك هندسي في الارضية والبناء. اضف لذلك علاقة إسرائيل مع اثيوبيا، بل حتى لو جاءت حكومة اثيوبية مؤيدة للعرب ومصر سيبقى وجود هذا السد مصدر للخطر الفادح الاشبه بيوم القيامة لبلدين عربيين كبيرين.
بينما دول المغرب العربي وليبيا عاجزة عن التعامل مع أي مشكلة، سواء كانت جائحة كورونا، او تعريب اللغة، او توفير العمل ودفع التنمية، او حسم اي حرب مع بعضها او ضد جيرانها، تبقى دول هامشية معتمدة على تحويلات ابناءها في دول المهجر الى اهلهم في الربوع المغاربية، ومعتمدة على السياحة الاجنبية والتشمس فوق الرمال وتقديم الخدمات للسياح وحمايتهم من الارهاب المحلي .. بدون التحويلات والسياحة تُسبح الشعوب بحمد ربها وتختلف في فتاوى الزواج والطلاق، فلا مصنع ولا أنتاج ذات بال، بل ان التصنيع الزراعي من الدرجة الثالثة بمقاييس العالم. جمهور الدول المغاربية في فرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول الاوروربية هم دينمو الاقتصاد الصناعي والانتاج الزراعي !!
فلسطين البداية ولا زالت تحت الانهاك، وتلاها العراق وسوريا وليبيا ولبنان ليصبح مصيرها في يد أخرين يتلاعبون كما يريدون وكيفما يناسبهم ويفيد مخططهم، أما دول الخليج فقد خلقت صراعاً ذاتيا داخلياً ومن ثم فشلت في تحييد الخطر الايراني لاسباب طائفية، بل ان السبب الطائفي هو الذي دفع الخليج لتحميس العراق على خوض حرب طاحنة لثمان سنوات ضد ايران، والان الجميع خائف وخاسر وأصبح في خطر نتيجة لفشل النهج الاسلامي في السياسة .. كل الاموال تصب في الخزينة الامريكية التي تطالب علناً بدفع الجزية مقابل حماية المسلم من جاره المسلم .. انه تماماً تكرار الحال الاندلسي.