تشريح تاريخي سياسي إجتماعي للصراع العربي الغربي المتواصل
تمهيدٌ للكتاب
كتبَ جُلُّ مُؤرِّخينا الأفاضل عَنِ الماضي عبرَ التَّناقُلِ الشَّفهيِّ، وبالتَّالي لا مجالَ للدِّقةِ أو للحياديَّةِ أو القُدرةِ على التَّمحيصِ، وبالطَّبعِ؛ لا توجدُ فرصةٌ للهُروبِ مِنْ تأثيراتِ السُّلطةِ السَّائدةِ زمنَ المُؤرِّخِ؛ لتحويرِ الماضي بما يُناسبُها. بعضُ أولئك الأفاضلِ كتبوا الماضي البعيدَ، وعن الشُّؤونِ التي عاصروها أيضًا، وَقِلَّةٌ منهم اختصَّ بالكتابةِ عن زمانِه فقط، فكان بذلكَ يُدوَّنُ التَّاريخُ فعلاً.
التَّاريخُ الجاهليُّ ونقيضُه الإسلاميُّ؛ كُتِبَتْ فصولُهما بعدَ عدَّةِ قرونٍ من بدايةِ الإسلامِ، ولذلك وصلَتْنا صورةٌ سلبيَّةٌ للفترةِ السَّابقةِ للإسلامِ، وأخرى ورديَّةٌ للحِقْبةِ اللاحقةِ وكلاهما بالطَّبعِ غيرُ مُدقَّقةٍ، ومُعتمِدةٌ غالبًا على الرِّوايةِ الشَّفهيَّةِ عبرَ قُرونٍ، وعلى الأحاديثِ التي ثَبُتَ تناقُضُ آلافٍ منها، ومن ذلكَ عدمُ منطقيَّةِ العددِ الهائلِ مِنَ الأحاديثِ التي نُسِبَتْ إلى أبي هريرة مثلاً.
في واقِع الحالِ إنَّ كثيرًا مِنَ الطِّباعِ السَّائدةِ الآن بينَ العربِ جاءت مِنَ الزَّمنِ الجاهلِيِّ؛ إذ إنَّها أثَّرتْ على الإسلامِ كما أثَّرَ الجاهليُّون على مَسارِ الدِّينِ بعدَ أنْ أسلموا بينَ ليلةٍ وضُحاها، ودخلوا في دِينِ اللهِ أفواجًا، وتمكَّنَ القُرشِيُّون الذين حاربوا الرِّسالةَ المُحمديَّةَ طويلاً – وبشدَّةٍ – من الاستيلاءِ بسرعةٍ وسهولةٍ على الدَّولةِ الإسلاميَّةِ، وتحويلِها إلى مَلكيَّةٍ بعدَ ثلاثةِ عُقودٍ – فقط – على موتِ الرَّسولِ.
الأندلُسُ؛ التي فُتِحَتْ مِنَ العربِ في نهايةِ القرنِ الهجريِّ الأوَّلِ شكَّلَتْ حالةً مُختلِفةً في التَّسجيلِ التَّاريخيِّ نظرًا؛ لتَعدُّدِ مصادرِ ذلكَ التَّاريخِ من جهاتٍ مُتصارِعةٍ، كما أنَّ الفاتِحينَ اهتمُّوا بالتَّسجيلِ الذَّاتيِّ، وشجَّعَ أُمراءُ الأندلُسِ العلمَ والعلماءَ الذين نَشِطوا في التَّأليفِ والجَمْعِ والتَّرجمةِ للمؤلَّفاتِ من مصادرَ أخرى، فتكوَّنَتْ مكتبةُ شامِلةُ للأحداثِ بما فيها شِبْهُ تسجيلٍ شهريٍّ وسنويٍّ للأحداثِ الاجتماعيَّةِ والسِّياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والأدبيَّةِ، أي؛ تسجيلٌ تاريخيٌّ مُعاصِرٌ للزَّمانِ والمكانِ.
وجودُ هذا التَّاريخِ، وبسببِ اندثارِ الأندلُسِ لم يُغيِّرْ في حقيقةِ انتشارٍ لاحِقٍ ومُستمِرٍّ لتاريخِ أمنياتٍ أندلُسيَّةٍ، و”فانتازيا” تاريخيَّةٍ مِنْ نوعٍ مُختَلِفٍ حتى القرنِ الحادي والعشرين، بل هناك من يتمنُّون العودةَ إلى ذلك الزَّمانِ المُزدهِرِ، وهم لا يعرفون أنَّ ذلك الأمسَ يكادُ يُشبِهُ هذا اليومَ إلى حدِّ المُطابَقةِ، كونُهم لا يقرؤون أو يُدقِّقون في الأساطيرِ المُتناقلَةِ لأغراضٍ سياسيَّةٍ مُتنوِّعةٍ.
وبعدُ؛ يأتي هذا الكتابُ ليقارنَ بينَ أمسِ الأندلُسِ والدَّولةِ الإسلاميَّةِ من جهةٍ، وبينَ يومِنا الذي نعيشُه؛ مُحاوِلاً تجليةَ وجوهِ التّشابُهِ أحيانًا، والتَّطابُقِ أحيانًا أخرى بينَ الحِقْبَتَيْنِ؛ إذ إنَّه يُفترَضُ بنا أنْ نتعرَّفَ على تفاصيلِ ما يدورُ حولَنا، ونتأكَّدَ أنَّ اليومَ أشبَهَ بالأمسِ. في المُحصِّلةِ؛ نستنتجُ أنَّ النتائجَ ستكونُ مُتشابِهةً هي الأخرى، وبالتَّالي علينا إمَّا تغييرُ واقِعِنا للأفضلِ، أو انتظارُ مصيرِ الأندلُسِ؛ ليحُلَّ علينا. فمعروفٌ أنَّ الأندلُسَ والأندلُسيِّين، والإسلامَ، ولغتَهم العربيَّةَ اندثروا، وأُزيلوا بالقُوَّةِ المُفرِطةِ من شِبهِ الجزيرةِ الأيبيريَّةِ، بل إنَّ الفِرِنْجةَ طاردوا العربَ عبرَ مضيقِ جبلِ طارقٍ، واحتلُّوا مناطقَ؛ سبتةَ ومليلةَ التي انطلق منها الفتحُ في شمالِ إفريقيا، وما زالوا يحتلُّونها حتى الآن.
اليوم؛ – وبالمُجمَلِ – يتكرَّرُ هذا الحالُ مَعَ الغربِ المسيحيِّ، مُستغِلاً الأساطيرَ اليهوديَّةَ، وصانِعًا لإسرائيلَ الاستعماريَّةِ المُحتلَّةِ بدعمٍ مُطلَقٍ منهم، ساعيًا لاستعادةِ حوضِ البحرِ الأبيضِ المتوسِّطِ تحتَ هيمنتِهِ، وامتصاصِ خيراتِ الأرضِ العربيَّةِ النَّفطيَّةِ، وارتهانِ سياسةِ الجزيرةِ العربيَّةِ – مَوطِنِ العربِ الأصليِّ – وحياتِها بأيديهم.
النَّتيجةُ التي آلت إليها الأندلسُ الإسلاميَّةُ العربيَّةُ لم ترتكزُ على عنصرِ الدِّينِ المسيحيِّ، والقُوَّةِ والمُثابَرَةِ في المُقاوَمَةِ منهم فقط، وإنَّما بدرجةٍ كبيرةٍ جاءت النَّتائجُ الكارثيَّةُ بسبب السِّياسةِ والعقليَّةِ العربيَّةِ الصَّحراويَّةِ البدويَّةِ التي سادَتْ في الجاهليَّةِ، ولم يتمكَّنِ الإسلامُ من تكييفِها للأفضلِ، بل تكيَّفَتْ التَّفاسيرُ في أحيانٍ كثيرةٍ؛ لتُناسِبَ تلكَ العقليَّةَ التي وَضَعَتْ رؤيتَها في خانَةِ المُقدَّساتِ، ولا زالَتْ تُسبِّبُ الكوارثَ، وهي غيرُ مُكترِثةٍ بالمُستجدَّاتِ والتَّطوُّرِ البشريِّ الاجتماعيِّ والصِّناعيِّ الإنتاجيِّ.
الجاهليُّ المُحِبُّ للنِّكاحِ والرَّاحةِ والكسبِ السَّهلِ حتى لو بالغزوِ والقتلِ والسَّرقةِ والفسادِ، لا زالَ حاضِرًا في كلٍّ مِنَّا تقريبًا، وتُشكِّلُ شخصيَّتُهُ الأغلبيَّةَ السَّاحِقةَ من شُعوبِنا. هذه العقليَّةُ طعَّمَتْ التَّفسيراتِ الدِّينيَّةَ بدايةً من تفاصيلِ الجنَّةِ وحياتِها مُرورًا بشُروحاتِ تقسيمِ الغنائمِ، ومُلْكِ اليمينِ من السَّبايا، وهكذا تعزَّزَ التَّمسُّكُ بهذه الرُّؤيةِ التي أصبحَتْ دينيَّةً مُقدَّسةً إلى درجةِ أنْ صارَ مَرَدُّ كثيرٍ مِنَ الكوارثِ التي مرَّتْ وتمُرُّ بها الدُّولُ العربيَّةُ إلى عوامِلَ دينيَّةٍ، وسببُها بشكلٍ حاسِمٍ تلكَ العقليَّةُ القَبَليَّةُ الجاهليَّةُ التي هيمنَتْ على الإسلامِ والعربِ والمُسلِمينَ، وأنتجَتْ داعِشَ التي – وبصراحةٍ – تُعشِّشُ في أذهانِنا، ولو بأشكالِها ورؤيتِها الذُّكوريَّةِ الاجتماعيَّةِ.
مبادئُ الغزوِ والغنيمةِ والتَّمسُّكِ في الكرسيِّ حتى النِّهايةِ القاتِلةِ، والخلافاتُ وقطعُ الرُّؤوسِ داخلَ العائلةِ الواحدةِ، ومُمارَساتُ الأُمراءِ والخُلفاءِ والسَّلاطينِ لم تتغيَّرْ إلا في الشَّكلِ، وكذلكَ خيانةُ المُسلِمينَ لبعضِهم كدُوَلٍ وجيرانٍ، ومعاداةُ العلماءِ الاجتماعيَّينَ، وتحكُّمُ الزَّعيمِ في المالِ والعطاءِ والمَنْعِ، هي بعضُ الأسبابِ التي تفرِضُ التَّشابُهَ المُتتالِيَ عبرَ أربعةَ عشرَ قرنًا مِنَ الزَّمانِ، وهي التي أعطبَتْ الدَّولةَ الإسلاميَّةَ المُنتفِخةَ بما في ذلك ضياعُ الأندلُسِ، والانهزامُ لزمنٍ أمامَ الصَّليبيِّين والمغوليِّين، واحتلالُ كلِّ بلادِ المسلمينَ، وضياعُ فلسطينَ، وبدايةُ ضياعِ ما حولها عبرَ التَّخريبِ الذَّاتيِّ، ونشرُ المجاعةِ، وفرضُ الهجرةِ للقادِرينَ، وخلخلةُ الواقعِ السُّكانيِّ؛ ليسهُلَ هدفُ الغربِ بإقامةِ إسرائيلَ الكبرى كرأسِ حربةٍ؛ للهيمنةِ الغربيَّةِ على بقيَّةِ حوضِ البحرِ المتوسِّطِ، وعلى الصَّحاري العربيَّةِ، وشلُّ قدراتِ الإسلامِ مَعَ الحِفاظِ عليه دونَ تحديثٍ كعنصرٍ أساسيٍّ لاستمرارِ التَّخلُّفِ. وهنا أيضًا يعتمدُ الغربُ على مساعدةِ المسلمينَ الأصوليِّينَ ويحميهم ويُبادلُهم الدَّعمَ.
الكتابُ إذًا للقُرَّاءِ العربِ، وللمسلمينَ؛ إذ سيسهُلُ عليهم تلمُّسُ الغايةِ والهدفِ مِنَ المحتوى المَعروضِ فيه، وغيرُ مُوجَّهٍ للغربِ، وبالتَّالي؛ فالقصدُ والهدفُ هو المُساعَدةُ في تشخيصِ المرضِ أو النَّقصِ أو الجُرْحِ، وبيانُ أسبابِ التَّخلُّفِ، وتحليلُها ومُناقشتُها؛ تسهيلاً لإيجادِ الدَّواءِ، ومن ثَمَّ العلاجُ والتَّعافي، وفي المُقابلِ تأتي الإشاراتُ الواردةُ للغربِ وأهلِه من بابِ الاهتمامِ بمراجعةِ تجربتِهم، ورؤيةِ كيف خرجوا من الجهلِ والتَّخلُّفِ، وأصبحوا على ما هم عليه من اختلافٍ عنَّا على مدارِ القرنين المُنصرِمَيْن.
هذا – بالطَّبعِ – لا يَحْسِمُ بأنَّهم وصلوا للحالِ الأمثلِ المنشودِ، فهم ذاتُهم ينتقدون بعضَ النَّتائجِ التي وصلُوا إليها مثل؛ أفعالِ الرَّأسماليَّةِ الماديَّةِ في طبقاتِ الشَّعبِ، والتَّلاعُبِ في الدِّيموقراطيَّةِ، والتَّحكُّمِ المُسبَقِ في نتائجِها… ولكنِ المساوئُ عندَهم لا تُقارَنُ بما لا زلنا فيه وعليه، ولم نغادِرْه منذُ عشراتِ القرونِ، وبالتَّالي؛ علينا بالبحثِ والتَّطويرِ. وقبلَ بدايةِ الخُروجِ من التَّخلُّفِ، وحتى لا تقتصرَ النَّتيجةُ على المظاهرِ والقُشورِ، علينا أوَّلاً؛ كسرُ حلقاتِ الجهلِ.
في واقعِ الحالِ؛ أصبحَ الفارقُ الثَّقافيُّ بينَ الغربِ العَلمانيِّ، والإسلامِ الآن شاسِعًا جدًّا، ويقتربُ في بعضِ جوانبِهِ من درجةِ التَّناقُضِ والتَّضادِ. فإذا أرادَ المُسلِمونَ التَّطوُّرَ السَّريعَ، وبغضِ النَّظرِ عن رؤيتِهم للغربِ، فعليهم على الأقلِّ إيجادُ آلياتِ تطبيقِ الإيجابيِّ من تعاليمِ دينِهم، مثلِ؛ العدالةِ والصِّدقِ والمُساواةِ والرَّحمةِ، وتمجيدِ قِيَمِ العملِ والإنتاجِ، وغيرِ ذلك وصولاً إلى رفعِ حريَّةِ المستوى الفِكريِّ، ومُحارَبةِ التَّخلُّفِ بالعملِ في الاستفادةِ مِنَ الإيجابيَّاتِ وتعزيزِها، فهذه معركةٌ ثقافيَّةٌ كبيرةٌ طريقُها موسومٌ بشعارِ؛ تقديمِ الأفعالِ والمُعاملَةِ الحسنةِ على العِباداتِ، والأخذِ بالعُمْقِ، وليس بالظَّاهرِ السِّطحيِّ، والتَّطبيقِ الذَّاتيِّ دونَ انتظارِ عملِ الغيرِ من أفرادٍ أو جماعاتٍ، ونفيِ الخُزَعْبَلاتِ، واستبعادِ أساطيرِ الجِنِّ والعفاريتِ والسِّحرِ والاتَّكاليَّةِ مِنَ العقلِ المُسلِمِ… فالصَّحيحُ والمنطقيُّ ظاهِرٌ، والخطأُ والخُرافيُّ ظاهِرٌ، وذلكَ مِنْ دونِ نفيٍ للدِّينِ بالضَّرورةِ، وإنَّما بالتَّأكيدِ على عناصرِهِ الإيجابيَّةِ، وهذا ما يفعلُهُ اليهودُ والنَّصارى.
أرجو أنْ تُساهِمَ هذه الحِكاياتُ في ذلكَ، وهذا هو هدفُ الكِتابِ.