الشعب الفلسطيني غاضب على الحكومات العربية لعدم نجدتها إياهم، وخصوصا سكان قطاع غزة المنكوب، والذين يقدمون أساطير فريدة في الصمود والثبات على أرضهم، وهذا موضوع آخر. أسباب الغضب الشعبي العربي عموما واضحة، لكن لماذا تبدو الحكومات العربية مترددة، ومعظمها خانعة وهل الأسباب مقنعة؟
الحكومات العربية في الغالب غير مُنتخبة، والشعوب عموما لا تدفع ضرائب نظرا لضعف المداخيل في الدول الفقيرة، أو لا تدفع مقابل تقبلها للحكومات في الدول الغنية. هذا يعني اتباع الدول الفقيرة لسياسة المتبرعين للميزانيات السنوية، وتبعية الدول الغنية لمن يقدم الحماية الرمزية أو الفعلية، وهي في الحالتين الدول الغربية الاستعمارية سابقا والآن. هذا الاستعمار ربط شعوب المنطقة برؤيته؛ فأصبح العرب يعتقدون بوجود حقوق إنسان، وعدالة، وسعي غربي تجاه المبادئ الإنسانية. هكذا كلما وقعت المنطقة العربية في إشكالية طاحنة يرتفع عويل الجمهور: أين حقوق الإنسان؟ أين العدالة؟ أين المؤسسات الدولية؟ لماذا تسكت حكوماتنا؟
على الرغم من تكرار التجارب والنتائج مرة بعد أخرى، بل وفي حياة الجيل الواحد مرارا؛ فالجمهور يكرر التساؤلات ذاتها، ولا يريد الاقتناع بالإجابات المستنتجة: الحكومات لا تمتلك القرار الذاتي المستقل، والحكام همهم الكرسي، والاقتصاد معتمدا على الغرب، أو بالأحرى مرتهن له كون الشعب لا يدفع الضرائب للميزانيات، وحين يدفع تتسرب الأموال إلى أيد وجيوب محددة، وذلك لانعدام الديمقراطية الانتخابية الدورية والحساب للفساد والفاسدين.
الغرب إنساني وعادل وقانوني وديمقراطي، لكن مع ذاته، وحكوماته عنصرية استعمارية تسعى لامتصاص الغير، العربي والأفريقي واللاتيني لتعزيز سيادة الأوروبي والأميركي… هذا معروف ومكتوب في الكتب، ومشروح في الخطط الغربية، ويتجلى يوميا في السياسة والاقتصاد والحرب والدبلوماسية، وهم لا يهتزون فقط لمذابح الفلسطينيين وهدر حقوقهم منذ عقود، ولكن موقفهم مشابه من بقية المذابح والحروب والقتل والنهب خارج إطارهم الجغرافي. أما المؤسسات الدولية فهي خاضعة لسياسة الأقوياء، بمعنى أنها تُستغل لتمرير رغباتهم تحت غطاء تلك المؤسسات. لا يوجد عاقل يقر أن الأمم المتحدة ومنظماتها لديها القرار المستقل القابل للتنفيذ حسب الأغلبية؛ فأغلبية دول العالم مثلا حسب تصويتها في الجمعية العمومية مع فلسطين، لكن الجمعية العمومية مخصية منذ ولادتها ويمكن للدول الاستعمارية استعمال الفيتو للتعطيل أو التبرير كما نرى يوميا، وأحيانا يتكرر الفيتو ذاته في مجلس الأمن أكثر من مرة في اليوم.
بالاضافة الى التبعية العربية الرسمية والشعبية للخداع الغربي، هناك اسباب اخرى تشل قدرات الحكومات العربية في قضية المجازر الجارية في قطاع غزة. نعم هي حكومات مرتبطة بالغرب، وحكام متمسكون بالكراسي، لكن هذا ليس كل شيء في حالة قطاع غزة. منذ عقود طويلة ومع نهاية الخلافة العثمانية تشكلت جماعة الاخوان المسلمين التي تسعى لتولي السلطة، وبالتالي تعادي اشكال الحكم الاخرى مثل الدكتاتوري والملكي، أو حتى العلماني الذي يتيح حرية الاديان؛ فهم يريدون الحكم والتسلط وفرض القانون حسب رؤيتهم. في فترة الربيع العربي عاد الاخوان للتحكم في بعض الدول وفرضوا ذاتهم، وكانت حكومات عديدة قبل ذلك تمولهم، مثل حكومات الخليج وتركيا ليقوضوا الحكومات الديمقراطية نسبيا والجمهوريات، ولذلك لم تسقط اي دولة ملكية اثناء الربيع ولم تنج اي جمهورية… القصة طويلة، وباختصار؛ فالصراع هو على تزعم الاسلام السني، وسعت اليه الرياض والدوحة واردوغان، وتنافسوا عليه وخربوا الدنيا عبر دعمهم للمتطرفين والمليشيات الاسلامية السنية. عندما اختلف الممولون وتقاتلوا اعلاميا دارت الدوائر على جماعة الاخوان، ولم ينج منهم سوى حركة حماس التي احتمت جماهيريا كحركة مقاومة فلسطينية.
عندما جاء يوم السابع من أكتوبر ارتعبت الأنظمة العربية أكثر من إسرائيل؛ فنصر حماس بشكل أو آخر يعني بالنسبة للأنظمة العربية سطوع الإسلام السياسي المقاوم المحارب، وأي سطوع… إنه بدعم من الإسلام السياسي الشيعي، الخصم الأبدي للإسلام السني. لو انتصرت حماس بدعم إيراني؛ فهذا يمهد لتغير ديني وسياسي في المنطقة لصالح الفكر الإيراني، وليس من المؤكد أن الأمة العربية تريد التحول من حكم أنظمتها التعيسة إلى حكم الملالي الأتعس بدرجات كما تثبت تجربة إيران فيما يتعلق بالحريات والتقدم والرخاء والديمقراطية. الحكام العرب طبعا لم ينظروا للأمر من زاوية الحريات، بل ظنوا أن نصر حماس هو بداية هز عروشهم لصالح حكام تابعين للملالي، أو على الأقل لحركات الإسلام السياسي… هكذا لجئوا للصمت وغرس الرأس في الرمال وانتظروا نتيجة سريعة لم تات بعد… ولذلك هم يسكتون هامدون حائرون، وليس حبا في إسرائيل أو كراهية في الشعب الفلسطيني.
لماذا إذا لا تناصر إيران، أو حركة المقاومة المدعمة منها، حركة حماس والشعب الفلسطيني بوضوح؟ هذا يعيدنا إلى العلاقة المتأصلة بين إسرائيل وقوى الاستعمار الغربي والتي تحركت بكل ما تملك منذ الساعات الأولى لدعم وحماية إسرائيل ظالمة أو مظلومة، وحضرت الأساطيل، وأبلغت إيران وحزب الله أن التدخل، بمعني تدمير مدن إسرائيلية على غرار تدمير إسرائيل لغزة، سيعني تدمير لبنان وإيران من دون نقاش. على الرغم من ذلك وللأمانة فقد أوعزت إيران لأذرعها في المنطقة باستنزاف متكاثر تدريجيا لإسرائيل والمصالح الغربية، ولا يمكنها عمل أكثر من ذلك نظرا للحصار العربي الإسرائيلي الجلي على قطاع غزة.
ما يمنع العرب وإيران وأذرعها من الدعم الفعلي لغزة، مثل إدخال الدعم من معبر رفح دون تنسيق، أو دك مدن رئيسة بالصواريخ بعيدة المدى لردع إسرائيل، ما يمنع ذلك هو وضوح الجنون الإسرائيلي وشعورهم بالتهديد الوجودي من جراء نسف الردع بفضل غزوة السابع من أكتوبر، وبالتالي استعداد إسرائيل لردود مجنونة من ضمنها استعمال اسلحه نووية، ودخول الغرب عسكريا على الخط، وبالتالي حرب عالمية لا نصير واضح للعرب فيها، كون الصين وروسيا تنتظران جني الفوائد من أي نتيجة للحرب من دون انخراطهما.
هناك سبب آخر مهم لموقف الحكومات العربية الناعس، ولموقف إيران وحزب الله المتردد: إن حركة حماس لم تخبرهم بالغزوة مسبقا، وبالتالي لم يستعدوا لها كما يجب، ولم يتمكنوا من الاشتراك وكسب عنصر المفاجأة في البداية، وربما لو استشيروا لتمكنوا من تسليح إضافي لحماس مثل بعض القدرات على التصدي للطيران الحربي والمُسير، أو غير ذلك. لكن إبلاغ حماس لأي جهة بالغزوة التي تخطط لها كان سيعني وصول الأخبار لإسرائيل عبر بث مباشر.
حين نتفحص الدول العربية سنجد ما ذكرناه ينطبق عليها، أضف لذلك وجود موقعين اتفاقيات سلام يعانون من شبه الإفلاس الاقتصادي، وموقعين إبراهيميين لا فكاك لهم؛ فالبحرين تريد حماية ضد إيران في الخارج والشيعة في الداخل، والإمارات العربية يهيمن عليها أبو ظبي ودبي وهما مرتبطان منذ البداية بممولين ومطورين صهاينة ساهموا في تصميمها، وقطر تعاني من تأييدها للإخوان وهي عمليا المتصدية لدعم قطاع غزة، بينما الكويت أسيرة لبرلمانها المنتخب والمتصارع بين الإسلاميين والبقية… وهكذا الوضع معروف في شمال أفريقيا، لكن ماذا عن المملكة العربية السعودية؟
حين استلم الأمير مقاليد الحكم بالإنابة عن والده، قام بتغييرات سريعة جذرية اجتماعية ووضع الخطط لنهج اقتصادي مستقبلي مكلف، وبالتالي كان يستفيد من دعم أو حتى سكوت القوى الغربية كونه أصبح دون نصير أيديولوجي داخلي، بل تحول الشيوخ إلى السجون والمعارضة. ثم جاءت قصة القنصلية في تركيا والمناشير؛ فانقلب عليه الرئيس الديمقراطي بايدن وهدد بتحويل المملكة إلى بلد مارق. حرب أوكرانيا أسعفت الأمير والمملكة لحاجة الغرب لنفط بديل للروسي، وهنا خضع بايدن والغرب، وكان الأمير قد تقرب للصين وموسكو وعقد الصلح مع إيران التي استعملها الغرب كفزاعة للعرب. باختصار، انقلب الموقف الأميركي الغربي ونسوا حقوق الإنسان وتمنوا على الأمير الانضمام لموكب التطبيع، وضغطوا عليه حتى وجد الأمير المخرج بشروط ظنها صعبة كبديل للتطبيع ومنها إقامة الدولة الفلسطينية. ساوموه وجادلوه على طبيعة الدولة الفلسطينية؛ فجاءت غزوة السابع من أكتوبر لتنجد الأمير وتشد من عضه والتمسك بمطلب الدولة الذي أصبح مطلب القاصي والداني ما عدا الحكومة الإسرائيلية.
أثناء المجزرة في غزة عقدت المملكة قمة عربية إسلامية مشتركة وتركت للمشاركين حرية اتخاذ القرارات، ثم ساهمت الدبلوماسية السعودية في كل المساعي العربية الإسلامية، وكررت الرياض التصريحات بدعمها لحقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته من دون ذكر لحركة حماس، وهو ما لم تفعله غالبية الدول العربية، أي تأييد المقاومة. يمكن القول عن الموقف السعودي أنه تمنع طويلا عن التطبيع، وصمد تحت الضغط الغربي في ظروف داخلية قلقة، ولم يتنازل عن طلب حل الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس كثمن للتطبيع. والأمير بذلك يتجاوب مع رؤية ومطالب شعبه؛ فقد أجرى “معهد واشنطن لسياسة الشرق الداني ” استطلاعا داخل السعودية حول الحرب الدائرة في غزة في ديسمبر الماضي، جاء فيه أن 96 % من السعوديين يؤيدون فكرة أنه يجب على الدول العربية قطع جميع العلاقات مع إسرائيل.
بمعنى آخر فالتطبيع مع المملكة لن يتم إلا بثمن إقامة الدولة الفلسطينية، وهذا الموقف تنازل عنه الذين عقدوا الاتفاقيات بأنواعها، والذين يطبعون سياسيا واقتصاديا دون رسميات، وعلينا كعرب، وكشعب فلسطيني خصوصا، عدم توجيه تهم الإخوان المسلمين إلى السعودية، واتهامها بما ليس بها حتى لا ندفعها ونمهد لها التطبيع… نهاجم الساكت والمطابع والمتآمر، ولكن لا نسقط في أحابيل الإخوان ونكرر تهمهم لخصومهم. الشعب الفلسطيني في أحوج الحاجة لدعم الجميع الآن ولاحقا، والصح بين، والخطأ بين، والجاني بين والمجني عليه بين… وقبل هذا وذاك علينا كفلسطينيين التمعن في حالنا ونقد ذاتنا وتصحيح اعوجاجنا… لو لم يُعطل قادتنا تجديد الانتخابات مرارا ليحافظوا على مناصبهم في غزة والضفة لما وصلنا إلى هذا الحال، أو على الأقل لوصلنا إليه بإرادة ديمقراطية انتخابية وحينها نتحمل مسؤولية خياراتنا.