يمكننا أن نملأ الفضاء وصفا للواقع، وتوبيخا ولوما للمقصرين، ودعاء لهذا، وآخر على ذاك، وبالطبع سيكون هناك توافق جلي بين أبناء الشعب الفلسطيني وربما غالبية الأمة العربية على كل تلك العموميات التي لن تقدمنا خطوة للأمام في شأن القضية ووقف الحرب في غزة، وذلك كون الرأي العام العربي والفلسطيني لا وزن له لدى الحكومات والحكام غير المرتبطين بانتخابات ونتائج، (لكن تحرك الرأي العام العربي قد يضيء مصابيح حمراء في واشنطن). عموما لا بد من القول اننا نحتاج لديمقراطية في فلسطين، ولو كما قد مارسنا الانتخابات دوريا، لما أصبحنا في هذا الحال، وحين يقول قائل إن القيادات في غزة ورام الله هي التي تتحمل المسؤولية للخلاف والاختلاف على الزعامة والابتعاد عن الانتخابات؛ فلا بد من الرد على القائل بان الشعب الفلسطيني كان عليه القتال والاستبسال ضد هذه القيادات لفرض الانتخابات… وهذا ما يجب أن يكون الوضع عليه في اليوم التالي لنهاية الحرب، لان سكوتنا على تلك القيادات هو الذي أوصلنا الى النتائج الكارثية على كل فلسطيني.
لا يجب مطلقا لأي أعذار أن تعطل الانتخابات الفورية! إذا انتظرنا حتى ترميم الجراح البشرية والمعاشية والبناء؛ فهذا سيعمق تحكم وفساد الوضع القائم والذي أدخلنا لهذه الكارثة، ولن ينزلوا عن ظهرونا لعقود قادمة. قد يقال إن هذا الطرح يتماشى من هذه الرغبة أو تلك، لكن الحقيقة ستظهر عبر الانتخابات… إذا أرادت أغلبية الشعب قيادة من حماس، أو من فتح أو من احد عبيد الله؛ فليكن ذلك، وليتحمل الناخب مسؤولية اختياراته لأربع سنوات قادمة، ويقرر من سيدير إعادة البناء والتأهيل وتقرير الوضع السياسي… أسابيع منذ السابع من أكتوبر، تحولت لشهور من الدمار والتقتيل غير المسبوق في العالم والتاريخ ضد الشعب الفلسطيني، بينما قياداته في الضفة وغزة والخارج صامتة عاجزة عن اتخاذ أي خطوات توحيدية تطمئن الشعب على التوافق السياسي القيادي، وتؤكد للعالم وجود قيادة موحدة… بدل ذلك انبرى الأعداء يحددون من ستكون القيادة وكيف! ولم يتوقف التراشق الذاتي الفلسطيني بين الفئات ذاتها.
بصراحة تامة فالوضع مخزي: قوى فلسطينية وعربية تتمنى هزيمة المقاومة عسكريا مع كل ما تحمله الهزيمة من كوارث ونتائج… يتمنون ذلك لتولي حكم قطاع غزة والتأثير والتحكم في القضية ومصيرها. على الطرف الآخر؛ فحركة حماس مصممة على الخروج بنصر حتى لو كان ثمنه استكمال الدمار لنسبة مائة في المائة، غير آبهة بالشعب! حتى لو كان كل الشعب مع استمرار المقاومة حتى النهاية المميتة؛ فالمفروض في قيادة المقاومة المسؤولة أن تحدد لذاتها المدى الممكن ورحمة الشعب لجولة أخرى، خصوصا وان الجميع تقريبا يتفرجون. المنطق البديهي غير التآمري كان ولا زال يقول بضرورة استبعاد الخلافات السياسية وإعلان قيادة موحدة مؤقتة لشعب فلسطيني واحد، وتحديد لموعد يوم الانتخابات ليختار الشعب من يريد من المرشحين.
لقد عاش الشعب الفلسطيني حالة شقاق سياسي واجتماعي يجب أن تنتهي فورا عبر الانتخابات لقيادة وإدارة واحدة، والشعب واع لخياراته، وسيتحمل مسؤوليتها. الحالة التي توصل لها الشعب الفلسطيني بسبب غياب الانتخابات طوال 17 عاما تمرجحت بين الهوان والجنون، وهذا لا يمكن تقبل استمراره دون تأكيد شعبي لهذه الحالة أو تلك أو لحالة جديدة عبر التصويت.
الشعب الفلسطيني صاحب التجارب مع كل أنواع القيادات بوسعه الاختيار، والشعب محب للمقاومة والمقاومين، كاره للسياسة والسياسيين… وهذا طبيعي أن يحب الشعب جيشه وفدائيية ومقاتليه ويكره الطبقة السياسية… هذه حالة عالمية وتتعمق لدى الشعوب المتطلعة للحرية! لذلك يُفترض أن تحدد الانتخابات القيادة السياسية، ويبقى قادة القتال مسؤولين عن الجيش ولكن تحت إرادة وقرارات القيادة المنتخبة شعبيا؛ فليس كل قائد عسكري فدائي ممتاز في إدارة المقاومة هو بالضرورة سياسي محنك يمكنه إدارة البلاد! بل إن هذه الفرضية وتطبيقها كانت من أولى أسباب الكوارث الفلسطينية الداخلية على مدار عقود.
من جهة أخرى؛ ففي اليوم التالي لوقف الحرب، ورغم كل المآسي علينا كفلسطينيين توجيه الشكر لكل من وقف معنا معنويا وعمليا، سواء حكومات أو شعوب أو منظمات. لقد وقفت الحكومات الغربية ضدنا، لكن موقف شعوبها دفع للتغيير، ولا يمكننا المطالبة بأكثر من ذلك… قد يريد بعضنا توجيه اللوم للدول والشعوب العربية! هذا غير منطقي؛ فحركة حماس، أو كتائب القسام، لم تشاور أحدا حين هاجمت عش الدبابير، والشعوب العربية مغلوبة على أمرها ولكنها تعاطفت معنا بشدة، لكنها لا تستطيع تغيير سياسة حكوماتها وجرها لحرب لم تخطط لها! والأجدر بنا كفلسطينيين أن نلوم سلطتنا مثلا، والتي لديها 30 ألف مقاتل مسلح مهمتهم التعامل مع إسرائيل وخدمتها! لماذا نريد من حكومات عربية متعاهدة مع إسرائيل أن تتحرك بينما حكومتنا راقدة منذ سنوات، بل عطلت مرارا في السابق تقديم دعاوى في المحاكم الدولية ضد الاحتلال لمعاقبته على جرائم حرب مارسها؟
في اليوم التالي لنهاية الحرب تجري انتخابات، وأول مهمة للحكومة المنتخبة تقديم شكاوى للهيئات الدولية لمعاقبة إسرائيل والمسؤولين فيها ودفع تعويضات للمتضررين كلهم وعن كل شيء، والمطالبة أن يؤخذ التعويض من الاقتصاد الإسرائيلي بالدرجة الأولى، ومن الذين زودوا إسرائيل بأسلحة الدمار، حتى لا يعودوا للتدمير مجددا، هذه القضية لا يجب التهاون فيها أو التفاوض عليها. المهمة الثانية إغاثة سريعة فورية للشعب، وبداية جادة وشفافة لإعادة البناء. المهمة الثالثة إعلان مجدد لدولة فلسطين وتحديد حدودها ضمن قرار الامم المتحدة 181 الذي اعلنت دولة إسرائيل على اساسه، وإعلان تقبل الحل السلمي القائم على ذلك الإعلان، والتأكيد أن البديل هو اعتبار الأرض محتلة وأنه لا تهاون في تحريرها بكل السبل المتاحة.
هذه هي الدعامات الأساسية لما بعد الحرب، وأي قبول باستمرار القوى الحاكمة في غزة والضفة على حالها من تهاون أو جنون لن ينقذ الوضع، ولن يكون هناك دعم مالي عربي وعالمي للاعمار، أو تقديم دعاوى دولية ضد الإرهاب الإسرائيلي من قبل السلطة القائمة حاليا، ولن يساعدنا أحد. علينا كشعب فلسطيني أن نعرف ونعي التالي:
الدول والحكومات العربية تعارض وتحارب حركة الإخوان المسلمين وأفرعها ومنهم حركة حماس، وبالتالي لن تنشط في دعم عيني أو معنوي أو دبلوماسي يعزز استمرار الحركة في غزة… لكن هذه الدول وبقية العالم سوف يحترم إرادة الشعب الانتخابية خصوصا بعد هذه الحرب المدمرة، ومن ثم بداية جديدة لحكومة منتخبة شعبيا وليست قائمة بفرض الأمر الواقع. كما أن الدول والحكومات العربية وغيرها فقدت الثقة بالسلطة الوطنية في رام الله ولذلك تجاوزتها قبل السابع من أكتوبر وطبعت مع إسرائيل ومنعت الدعم عن السلطة… لكن لو نجحت انتخابيا فسيعود إليها الاحترام كونها، أو غيرها، تعكس إرادة الشعب الفلسطيني.
من المهم أن نميز بين المقاومة من جهة، وبين الحركات الإسلامية وأيديولوجيتها الخاصة بها من جهة أخرى… وعلى حركتي حماس والجهاد عزل الرؤية الشعبية التضامنية عبر الصمود عن الرؤية الأيديولوجية، وكذلك عدم الوقوع في كارثة الظن أن التأييد الشعبي الفلسطيني والعربي والعالمي هو تأييد أيديولوجي… ومع ذلك لا بد من البناء على هذا التأييد الشعبي العالمي والعربي والسعي للاحتفاظ به وتسخيره مستقبلا عبر تفهم الرؤى الشعبية والتقرب منها… شعوب العالم والعرب مع القضية الفلسطينية ولم يتحولوا لحمساويين… هذا ما يجب فهمه حتى لا تضيع الإيجابيات المتولدة من كل هذا الدمار والمعاناة الحالية والقادمة والتي لا توصف.
علينا أيضا كشعب فلسطيني أن نخدم ذاتنا وقضيتا عبر التضحية الذاتية لكل فرد وعائلة وابتكار السبل والأدوات! كيف يمكن مثلا تقبل تدمير قطاع غزة وتجويع السكان، بينما بقية الشعب الفلسطيني في الضفة والداخل تستهلك المنتجات الإسرائيلية، أو هناك من يعملون في الاقتصاد الإسرائيلي؟ لا بد هنا من تنظيم مقاطعات شاملة للمنتجات الإسرائيلية ولو لفترات محدودة، ومقاطعة للكماليات، ومقاطعات دورية لبضائع ومنتجات معينة، والتوقف عن العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، وتنشيط الأعمال في الأراضي الفلسطينية سواء عبر تقوية الاقتصاد الزراعي في الضفة أو إعادة البناء طبعا في القطاع… لا للبضائع الإسرائيلية، ولا لربط الخدمات من مياه وكهرباء واتصالات إلخ بإسرائيل… لنستهلك منتجات أردنية ومصرية ومستوردة من الخارج. هذه ستكون مسؤولية الحكومة الفلسطينية المنتخبة، ولكنها مسؤولية كل فرد وعائلة أيضا.
كان التردد في تنفيذ الانتخابات عائدا لتخوف السلطة من نجاح الحركات الإسلامية، والآن، بعد السابع من أكتوبر وتكسير كل الجرار فلا بد من تقبل الاختيار الشعبي! لقد تدمر قطاع غزة، ونالت الضفة الكثير من الخراب، ولم يتبق فلسطيني واحد غير متضرر أو مصاب في ذاته أو عائلته من ذلك الحدث الجلل… كما أن كل الشعب فكر وتأمل وقرر رؤيته للمستقبل؛ فلم يعد هناك مجال للضحك على الذقون، وللشعب أن يختار طريقه وممثليه.
عبد الجبار عدوان
(بعد عشرة اسابيع من طوفان الاقصى 2023)