غزوة أكتوبر؛ ما لها وما عليها، واين المصير؟

فيسبوك
تويتر
واتساب

   من أصعب الأمور أن تناقش مجريات الأحداث بينما الحرب لم تضع أوزارها، كون المتنطعين والمؤدلجين المبرمجين سيباشرون بالدعاء عليك، وأشغال ذاتهم وغيرهم عن أصل الموضوع، ويحتمون بضرورة انتظار النتائج. لكن انتظار النتائج قبل بداية النقاش قد يكون مشاركة في السكوت على الانتحار؛ فنحن نرى هجمة غربية همجية متحالفة مع العدو ويمدونه بالذخائر والأسلحة ويحمونه دبلوماسيا، ولديهم برنامج يؤدي إلى إنهاء القضية وتشريد الشعب، وذلك في ظل صمت أو مشاركة عربية رسمية، والكثير من الدعاء والصلاة للمظلومين الذين يُبادون تباعا. هنا بالطبع لا يجب السكوت، بل الامعان في نقاش الأمور تجنبا للأسوإ، وتمهيدا للنجاح وتكليل الصبر الشعبي والتحمل للمصائب دعما للمقاومة، وضمان استمرار الحياة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في أقرب وقت، وليس العناد الأجوف الذي يؤدي إلى الانتحار الجماعي استجابة لرؤية رجل واحد أو حتى مجموعة غير مُنتخبة أصلا، أو مكلفة من جموع الشعب… الشعارات لن تلبي حاجة المتضررين في قضيتهم وحياتهم. تحمل الناس للبلاء يجب ان لا يعتبر تأييداً.

   لو اعتبرنا قتل جندي منهم في المعارك يقابله قتل مئتين منا، وجرح ضعف هذا العدد، واستمرار للدمار الكاسح الماسح الشامل للبنية التحتية والفوقية؛ فهل يشكل هذا التحمل أي أهمية في مقابل لا شيء من الدمار المشابه في الطرف الآخر… هل نسفنا أي حي سكني لهم؟ هل قطعنا عنهم الماء والكهرباء وجوعنا عشرة أفراد منهم؟ علينا أن نرى الأمور كما هي ولا ننساق للمبالغات الإعلامية.. الصبر وتحمل البلاء لا يحقق النصر لوحده، ولكن مطلوب ايجاع مشابه أو أقوى في الطرف الآخر.

   إنهم قد استغلوا الغزوة وصعدوا أهدافهم بحجة الردع والقضاء على المقاومة، لكنهم يرفضون الهدنة والحلول أو الاستجابة للضغط الدولي، وأصبحوا بقوة التدمير والتجويع يريدون تهجير السكان وقتلهم واستعباد من يبقى منهم على قيد الحياة بعد توقف العدوان… هو عدوان من أطراف استعمارية ضد طرف واحد هو الشعب الفلسطيني الذي لا يملك مقومات الدفاع، ووقع ضحية لعبة أما أنها غبية، أو محبوكة، وفي كل الظروف ستكون، بل أصبحت النتائج كارثية، وكلما تأخر الحل تتعاظم الكارثة اذا لم يتألم الطرف الاخر بذات المقدار.

   لنرى اذاً على ماذا تراهن قيادات حركات المقاومة الإسلامية بعد خمسة أشهر من التكرار للقتل والدمار؟ الأمتان العربية والإسلامية واصلتا النوم باستثناء اليمن وحزب الله، وهذا الوضع أصبح ثابتا ولن تحدث انقلابات عربية ثورية تتحرك للنجدة. الوضع العالمي الشعبي يُقدم بقدر استطاعته ولن يسعه إلا المقاطعة ذات النتائج طويلة الأمد القابلة للتراخي لاحقا، والوضع العالمي الرسمي منقسم بين مطالب بإطلاق سراح الأسرى لدى المقاومة ووقف العدوان من جهة، ومعارضة ودعم ومشاركة للعدو من قبل قوتين استعماريتين تتحكمان في مفاصل الوضع الدولي من جهة اخرى، أي واشنطن ولندن… ويشترك العالم بكل تنوعاته في المطالبة بالإغاثة للمدنيين، لكن الإغاثة مرتبطة بقرار العدو بفتح أو استمرار إغلاق المعابر وفرض الحصار، وهو ذات العدو الذي يضرب بعرض الحائط أي مطالب من أي طرف، لأنه عدو استوحش ومحمي خارجيا وتقوده حكومة فاشية تلاقي دعما شعبيا لاستمرار الإبادة.

   إذا ماذا بقي لقادة المقاومة ليراهنوا عليه؟ الموقف الشعبي الداخلي للعدو وأمل أن يضغط على حكومته أو يسقطها، والموقف الذاتي الدفاعي والتحول للهجوم في قلب الخصم ومواقعه لإحداث خسائر فعليه تجبره على تقبل هدنة! المراهنة على شعب العدو غير منطقي حتى مع مطالبة أهالي الأسرى وأنصارهم بقبول هدنة وصفقة تبادل؛ فهم نسبيا قليلي العدد كما يظهر في تظاهراتهم، وأضف لذلك أن المطالبين باستمرار الحرب والإبادة عبر القصف والتجويع هم أغلبية كما تثبت استطلاعات الرأي، وبالطبع الحكومة فاشية تماما، ورئيسها يعرف أن الهدنة ونهاية الحرب هي نهايته الشخصية إلى السجن نتيجة لاتهامات جنائية سابقة، لذلك هو مرتاح في استمرار ما يعمله، بل توجه إلى العدوان على جنوب لبنان لضمان وقت إضافي في الحكم. طبعاً لو كان مدنيو العدو يواجهون القصف وعمليات انتحارية في مدنهم وخسائر مفاجئة يوميا على غرار ما يحدث في القطاع لكان الحال مغايرا.

   هذا يوصلنا للمراهنة الأخيرة لقادة المقاومة، أي الصمود الشعبي والتصدي. الشق الأول وهو الصمود؛ فقد صمد الشعب حتى أعياه الصبر، ويشهد القاصي والداني بالصمود الأسطوري الفلسطيني وتحمل القصف والدمار مع السكوت المؤقت عن الأخطاء المرتكبة قبل غزوة أكتوبر وبعدها حفاظا على وحدة الصف اثناء الحرب… هذا الصمود يصعب استمراره نظرا لضيق الحال وانعدام الأمل تقريبا ولأن الحرب لم تعد حربا لكن إبادة لطرف واحد. إن التصدي بين الحين والآخر لدبابة أو قنص جندي، لا يمثل ردعا مقاوما يقدم أملا بالتعادل واحتمال النصر كنتيجة لكسر وتفكك جبهة العدو. من العوامل الأخرى المطلوبة لدعم الصمود: توحد القوى السياسية المدبرة للشأن الفلسطيني، لكن بعد خمسة أشهر وكل البلاوي التي نعايشها، لا زالت القيادات منقسمة متناحرة عاجزة عن التلاقي على برنامج وقيادة موحدة؛ فكل طرف يريد التفرد بالقيادة وفرض نهجه وعدم التنازل للآخر، بينما البلاد والشعب والقضية تتدحرج إلى العدم، وكلاهما غير شرعي كونه غير منتخب، وكانا قد رفضا تجديد الانتخابات مرارا وتكرارا برضاء وتحريض من العدو الفاشي اياه.

   التضحيات مهما عظمت لا تكفي لكسب الحرب إذا لم يواكبها عمل سياسي قيادي مرتبط بالهدف الشعبي ويتماهى مع العالم والقوانين الدولية؛ فالتضحيات لوحدها ستؤدي للنهاية المأساوية، والقيادة الجيدة هي التي بوسعها تقدير الموقف وقطف الثمار وتجييرها لصالح الشعب، والقيادات والأحزاب الجيدة هي التي تتنازل عن جمودها الأيديولوجي ومواقفها لصالح إنجازات للشعب… بينما القيادات الفلسطينية متباعدة وتتجه للدمار الذاتي، ويخدمون اهداف العدو ويساهمون في ترحيل الشعب أو فنائه… بل إن الشعب أصبح يحتاج لقيادة سوبر لردم الهوة والإسراع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه وترميم الوضع.

   الشعب صمد ورجال المقاومة المسلحة أبلوا جيدا في عمليات الدفاع المحدودة، لكن هذا الاستنزاف المسلح المحدود للعدو المدرب، يقابله استنزافا دمويا غير مسبوق للشعب الاعزل، وهنا يتضح سوء تقدير وتخطيط القيادة لغزوة أكتوبر، وسوء تقدير وإدارة وتصرف طوال الأشهر التي تلت الغزوة. كان من المفروض تقدير ردة فعل العدو على الغزوة، وبالتالي الاستعداد والتخطيط لردع ردة الفعل المحتملة. للحقيقة فقد قامت القيادة العسكرية، كما اتضح، بالاستعداد عبر تخزين أسلحة ومواد لصنع القذائف وتجهز كتائب وطرق الدفاع، ولذلك صمدت طويلا في تنفيذ الهجمات المناسبة وتصيد العدو، ولكنها تركت الشعب دون استعداد وحماية… لنتوقف هنا قليلا: كانت هذه المقاومة الحزبية الأيديولوجية تسيطر طوال 17 سنة على كل مفاصل الحياة في قطاع غزة وتتفرد في الحكم من دون انتخابات وتعادي عمليا الأحزاب والتوجهات الأخرى.

   هذا الحاكم بأمره طوال تلك المدة تسبب في عدة حروب، ولكنه لم يُقدم على تأهيل وتدريب الشعب على المقاومة، أو على كيفية التعامل في حالات الكوارث الطبيعية والحربية، أو إقامة ملاجئ، أو تخزين مواد أساسية، أو تأهيل صحي طبي بتعليم الإسعافات الأولية وتوفير المعدات الطبية في كل بيت ومدرسة، أو تعليم وتدريب لكيفية الإنقاذ، أو التصرف بنظام في الأزمات… ناهيك عن تعليم الشبان صناعة المتفجرات واستعمال السلاح الذي ممنوع على أي شخص غير منتم لهم امتلاكه… لذلك نرى الناس الان تركض هنا وهناك دون نظام، وتنتظر من المقاومين القلائل فعل كل شيء… كل ذلك كان من الممكن عمله طوال سنوات التفرد في الحكم والإدارة من دون كشف سر أنهم يخططون لغزوة أكتوبر.

   الذي خطط للغزوة ومهما كان ذكاؤه جبارا؛ فقد قصر في الاستعداد ولم يستشر أحد، لذلك حدثت الفوضى وتبعتها الكارثة والخذلان. دخل حوالي ألف مقاتل من أصل ثلاثين ألف، وكان هدفهم محددا بخطف جنود يراد استبدالهم بتبييض سجون الاحتلال، وهذا هدف سام نبيل ولكنه غير عملي كون معظم من تحرروا في عمليات سابقة تمت استعادتهم للسجون، أو تم اغتيالهم. دخل المقاتلون للخطف وتبعهم مدنيون للخطف والنهب، وعادوا بمجموعة عجائز مع بث مباشر على التواصل الاجتماعي، وكانت هذه همجية لا تمت للمعارك والإسلام والأصول بصلة، وكان من الواجب استدراك الأمر فورا وإعادتهم مكرمين والاحتفاظ بالجنود المخطوفين، لكسب تعاطف شعبي عالمي واحترام في صفوف العدو ذاته، لكن حدث العكس. أصبحت العملية من دون تخطيط بدل أن تكون محدودة، عملية فوضوية تستدعي ردود فعل كبيرة وكان من الأفضل استدراك الأمر في الساعات الأولى أما لضبط الوضع أو الزج ببضعة الإف جدد من المقاتلين ليصلوا إلى مدن أبعد وأكبر.

   كانت العملية بوضوح لخطف جنود، ولم يصاحبها شعارات سياسية تؤيد الحق والشرعية الفلسطينية… كان من الممكن إعلان شعار العودة للاجئين وترتيب عودة بعضهم دعائيا، أو رفع شعار حرب التحرير ضد حرب الاحتلال والبقاء في المناطق المستعادة لبعض الوقت، وكان من الممكن دفع اللاجئون للعودة إلى قراهم في جنوب فلسطين بسلام وشعارات تعايش، وغير ذلك الكثير مما لا يتناسب طبعاً مع عقلية وأيديولوجية المُخطط للغزوة. طوال شهور العدوان والشعب يستجيب لمطالب الشعب بالنزوح هنا وهناك، ولا يسمع من القادة إياهم سواء مطالبة بالصمود!! لماذا لا يتم توجيه الناس للتحرك شمالا رافعين شعارات السلام وتقبل الحياة المشتركة؟؟ شمالا هنا تعني لقرى ومدن جنوب فلسطين وهي مسقط رأس سكان القطاع!! مثل هذا المطلب المرتبط بوسائل سلمية كان سيؤدي للعديد من الأهداف، وإن كان سيحرم القادة من فرصة الحكم والتحكم… وفي كل الأحوال؛ فالموت للعائدين شمالا، أفضل وأشرف من الموت للنازحين جنوبا المهددين بالطرد من حدود فلسطين للجيران. 

   هذه العقلية ذاتها افترضت لاحقا أن حكومة العدو ديمقراطية وإنسانية وستضحي بذاتها في سبيل إنقاذ الأسرى الجنود، لكن الحكومة تحايلت واستبدلت المدنيين بأسرى فلسطينيين تمت استعادة أسرهم بعد أسابيع، وتماطل الآن، بل تصر على إطلاق سراح الأسرى الجنود بفعل الضغط الحربي والتجويع للسكان في شمال القطاع، ولا تأبه هذه الحكومة، ومعها المعارضة المشاركة لها بأي ضغط عالمي، وترفض شروط قيادة المقاومة لإطلاق سراح الرهائن مقابل عدد متناقص من الأسرى الفلسطينيين بعد أن كانت المطالبة تبييض السجون… هذه الحكومة قلبت الموازين والمعايير والأهداف وتتجه الآن إلى الإبادة عبر القتل والتهجير والتجويع وطلب السيطرة الأمنية والإدارية التامة على من ينجو من الموت ويبقى في القطاع، وسوف تتجه على أثر ذلك لاستعادة الاحتلال التام على كل الضفة الغربية وإطلاق الاستيطان فيها دون حدود أو قيود، والقفز على ساحة الأقصى لفرض حقائقهم الدينية.

   إنهم يقصفون ويُجوعون ويفاوضون عبر الوسطاء في باريس، فاين وصلت المفاوضات حتى اليوم؟ أخبار العدو تقول بأنه يعارض مطلب حركة المقاومة الإسلامية بإعادة سكان شمال القطاع إلى منازلهم! وأضافت أخبارهم أن تل أبيب عارضت أيضا زيادة حجم المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع، وعارضت مدة وقف إطلاق النار؛ فالتفاوض لا يتم لإنهاء الحرب والعدوان، بل هدنة ريثما يتم إطلاق سراح أسراهم مقابل بعض الغذاء لجوعي شمال القطاع والإفراج عن عدد متواضع من الأسرى الفلسطينيين دون ضمانه لعدم إعادة اعتقالهم من بيوتهم. وتقول اخبارهم ان حركة المقاومة الاسلامية على استعداد لتكون مرنة فيما يتعلق بعدد المحتجزين الذين سيتم إطلاق سراحهم في المرحلة الأولى من الصفقة.

   قائد من المقاومة يقول بدوره بهذا الصدد، إن الحركة تعاملت بروح إيجابية مع مقترحات الوسطاء على أساس وقف العدوان على غزة ورفع الحصار. وتابع القائد (نزال): “سنواصل المفاوضات غير المباشرة عبر الوسطاء المصريين والقطريين، وبابنا لن يُغلق لأننا مهتمون بالتوصل إلى تفاهمات توقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني ينتج عنها إدخال المساعدات الإنسانية والأدوية والوقود إلى غزة. الساعات القليلة المقبلة ستوضح ما إذا كنا نسير في مسار يؤدي إلى وقف إطلاق النار قبل شهر رمضان أم أن الأمور ستستمر على ما هي عليه الآن”.

   الأمور طبعا لن تستمر على ما هي عليه؛ فهذا تقييم سطحي، لأنها سوف تتراجع عبر ضغط القوة والتجويع وتجاهل الرأي العام العالمي والقوانين وسكون الإقليم… العدو يسير بسرعة الغيار الخامس في طريق منبسط؛ فلماذا يفرمل دون عوائق أمامه؟ أليس هو العدو الذي نعرفه ونعلن أهدافه، ألا نعرف أن الفرملة الوحيدة الممكنة هي إيقاع خسائر لديه بذات نوع وحجم ما يُوقع بنا؟ لماذا هذا الخنوع والالتزام الحربي بالدفاع التصيدي فقط بدل رد الصاع صاعين؟ إذا كان هناك عجز كنتيجة لسوء التقدير من الأساس؛ فلماذا تُحملون الشعب كل هذا الثمن… أليس الأجدر بكم الاعتراف بالفشل وتسليم القضية والقطاع والشعب الفلسطيني كوديعة لدى الأمم المتحدة؟؟

   أملى ورجائي من الله ان لا يكون كل هذا نتيجة لفخ تم نصبه بعناية منذ زمن… قولوا آمين.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top